مقامات بديع الزمان الهمذاني
أبو الفضل أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان الهمذاني،
ولد في همذان
ـ 969 - 1007 ميلادية ـ
|
المقامة الثانية عشر
ـ المقامة البغدادية ـ
|
+++
|
: حدثنا عِيسى بْن ُ هِشامٍ قال
اِشتهيتُ الأزاذ،
وأنا ببغداد، وليس معي عَقْدٌ، على نَقْدٍ، فَخَرَجْتُ أنتهِزُ مَحالَّهُ
حَتَّى أحَلَّني الكَرْخَ، فإذا أنا بِسَّوادِيٍّ يَسوقُ بالجَهْدِ
حِمارهُ، وَيُطَرِّفُ بالعَقْدِ إزارَهُ، فَقُلْتُ : ظَفِرْنا والَّلهِ
بصَيْدٍ، وَحَياكَ اللَّهُ أبا زَيْدٍ، مِنْ أيْنَ أقْبَلْتَ؟ وأَيْنَ
نَزَلْتَ ؟ ومتى وافَيْتَ ؟ وَهَلُمَّ إلى البَيْتِ، فَقالَ السَّوَاديُّ
: لَسْتُ بأبي زَيْدٍ، ولكنِّي أبُو عُبَيْدٍ، فقُلتُ : نَعَمْ ،
لَعَنَ اللَّهُ الشيطان، وأبْعَدَ النِّسْيانَ، أنْسانيكَ طُولُ
العَهْدِ، واِتِّصالُ البُعْدِ، فكَيْفَ حالُ أَبيكَ ؟ أَشابٌّ كَعَهْدي،
أَمْ شابَ بَعْدي ؟ فقال : لقدْ نَبَتَ الرَّبيعُ على دِمْنَتِهِ،
وأَرجو أَنْ يُصَيِّرَه اللَّهُ إلى جَنَّتِهِ، فَقُلتُ : إِنَّا
لله وإنَّا إِليهِ راجِعون، ولا حَوْلَ ولا قُوَةَ إلا بالله العلي
العظيم، ومَدَدْتٌ يَدَ البِدارِ، إليَّ الصِّدار، أريدُ تَمزيقَهُ،
فَقَبَضَ السَّواديُّ على خَصْري بِجُمْعِهِ، وقال : نَشَدْتُكَ
الَّله لا مَزَّقْتُهُ، فَقُلْتُ : هِلُمَّ إِلى البيتِ نُصِب غَذاءً،
أو إلى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، والسُوق أَقْرَبُ، وطعامُهُ أطْيَبُ،
فاسْتَفَزَّتْهُ حُمَّةُ القَرَمِ، وعَطَفَتْهُ عاطِفَةُ اللَّقَمِ،
وطَمِعَ، ولم يَعْلَمْ أنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ أَتَيْنا شَوَّاءً يَتَقاطَرُ
شِواؤهُ عَرَقاً، وَتَتَسايَلُ جَوذاباتُهُ مَرَقاً، فَقُلْتُ :
افْرِز لأَبي زَيْدٍ مِنْ هذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلكَ
الحَلواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلكَ الأَطْباقِ، وانْضِد عليها
أَوراقَ الزُّقاقِ، ورُشَّ عليه شَيئاً مِنْ ماءِ السُّمَّاقِ، لِيأْكُلَهُ
أَبو زَيْدٍ هَنيَّا، فأَنْخى الشِّواءٍّ بِساطورِهِ، على زُبْدَةِ
تَنُّورِهِ، فَجَعَلَها كالكُحْلِ سَحْقاً وَكالطِّحْنِ دَقَّاً،
ثُمَّ جَلَسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ ولا يَئِسْتُ، حتَّى اِسْتَوْفَيْنا،
وقُلْتُ لِصاحِبِ الحَلْوى، زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللوزينج رِطْلَيْنِ
فَهوَ أَجْرى في الحُلوقِ، وأمْضَى في العُروقِ، ولْيَكُن لَيْليَّ
العُمْرِ، يَوْميَّ النَشْرِ، رَقيقَ القِشْرِ، كَثيفِ الحَشْو،
لُؤلُؤيَّ الدُّهْنِ، كَوكَبيَّ اللَّونٍِّ، يَذوبُ كالصَّمْغِ،
قَبْلَ المَضْغِ، لِيأْكُلَهُ أَبو زَيْدٍ هَنِيّاً، قالَ : فَوَزَنَهُ
ثُمَّ قَعَدَ وقَعَدْتُ، وجَرَّدَ وجَرَّدْتُ، حتَّى اُسْتَوْفَيْناهُ،
ثُمَّ قُلتُ : يا أَ با زَيْدٍ ما أَحْوَجَنا إِلى ماءٍ يُشَعْشِعُ
بالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هذهِ الصَّارَّةَ، ويَفْثَأَ هذه اللُّقَمَ
الحارَّةَ، ، اِجْلِسْ يا أبا زَيْدٍ حتَّى نَأتيكَ بِسِقاءٍ، يأتيكَ
بِشُرْبَةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَراهُ ولا
يَراني أَنْظُرُ ما يَصْنَعُ، فَلَمَّا أَبْطأتُ عليه قامَ السَّواديُّ
إلى حِمارِهِ، فاعْتَلَقَ الشَوَّاءُ بإذارِهِ، وقالَ : أيْنَ ثَمَنُ
ما أكَلْتَ ؟ فَقالَ أَبو زَيْدٍ : أَكَلْتُهُ ضَيْفاً، فَلَكَمَهُ
لكْمَةً، وثَنَّى عليه بلَطْمَةٍ، ثُمَّ قال الشَوَّاءُ : هاكَ،
ومَتى دَعَوْناكَ ؟ زِنْ يا أخا القِحَةِ عِشرينَ، فَجَعَلَ السَّواديُّ
يَبْكي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بأسْنانِهِ ويقولُ : كَمْ قُلْتُ لِذاكَ
القُرَيْدِ، أنا أبو عُبَيْدٍ، وهو يقول : أَنْتَ أَبو زَيْدٍ، فَأَنْشَدْت
|
لا تَقْعُدُنَّ بِكُلِّ حالِهْ
|
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلَه
|
فالمَرْءُ يَعْجِزُ لا مَحالَهْ
|
وانْهَضْ بِكُلِّ عَظيمَةٍ
|
+++
|
|
الجوذابة رغيفٌ يخبز وفوقه طائرٌ
أو قطعة لحم
اللوزينج هو نوعٌ من الحلوى
ليليُ العمر أي صنع ليلاً
نهاري النشر أي أنه ظهر نهاراً
الصارة هي شدة الحر
يفثأ يخفف
القحة هي الوقاحة وسوء الأدب
|
الأزاذ : نوعٌ
من التمر الجيد
الكَرْخ هو مكان في بغداد
الدِمْنَة هي القبر
البِدار هو المسارعة والمبادرة
الصدار هو الثوب الذي يُلبس مما يلي الجسد
القَرَم هو الشهوة البالغة لأكل اللحم
اللقَم هو الأكل بسرعة
|
|
اُستخرج النص من كتاب شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني
للمؤلف محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان
|