قالَ الحارث : نزحتُ في بعض الفترات
إلى شاطئ الفرات، فلقيت فيها كُتَّاباً بارعين وأُدباء مثقفين، فاِختلطتُ
بهم لآدابهم لا إلى مآربهم، وأحببتُهم لأخلاقهم لا لدراهمهم، واَتخذوني
لهم سميراً وصاحباً وخليلاً، ثم اِتفق أنهم كلفوا أن يرحلوا إلى
بعض جُزرِ العراق لتحصيلِ الخَراج، واَختاروا سفينةً تحملهم وتسيرَ
بَهم
قال الحارث : فصحبتهم وركبت معهم، فلما اَستقر بنا المقام وجدنا
في زاوية السفينة شيخاً ممزق العمامة بالي الثياب، فعافت الجماعة
منظره وهمُّوا باخراجه، لولا أن شفقةً أدركتهم عليه
قال الحارث : وَلَمَّا توَسَطَتْ السفينة الماء، وِاعتدلَ الجو وطابَ
الهواء، حلا السمر وطابَ الحديث، فقال قائلٌ منا : أيهما أشرف، كاتب
الإنشاء والبيانِ، أم كاتبُ الخراج والديوان ؟ وذهب كلٌّ منا مذهبه
في التفصيل، وانطلقنا في الكلام. كان هذا والشيخ يرمقنا من بعيد،
ويحملق فينا ببصرٍ حديد، ثم اَستأذن في الكلام فقال : لقد أكثرتم
اللغط وأفرطتم في الجدل، فهل تأذنون برأيٍ أُبديه ؟ فقلنا تحدَّث
ولا حرج عليك، فأفاضَ في مدح كاتب الإنشاء حتى ظننا أنه يفضله، ثم
عاد فمدح كاتب الخراج حتى ظننا أنه يختاره، ثم اِسْتَشْرَفَتْ آذاننا
للحكم، ولكنه سَكَت، وتركنا حيارى معجبين بحلاوة لفظه وحسن اِستخراجه،
ثم سألناه عن نسبه وبلده، ورغبنا جميعاً في مودَّته وصُحبته، ولكنه
رفض كلَّ ذلك، ثم تَوَسَّمْتُهُ فإذا هو أبو زيد، فَعَرَّفْتُ صحابتي
به، فعادوا إلى التعلق به فأنشدَ أَبياتاً يَنْصَحُ فيها ركاب السفينة
ألا يحكموا على شخصٍ حتى يعرفوا حقيقة أمره، وألا يحتقروا كائناً
كان لدمامة خلقته ورثاثة ملبسه أو يزدروا سيفاً مخبؤاً في غمده.
ثم اِستوقف الملاَّح، وخرج من السفينة هائماً على وجهه
|