مقامات الحريري
|
المقامة الثالثة والعشرون ـ الشِعرية
ـ
|
+++
|
قالَ الحارث : ضِقْتُ عاماً بعيشتي
وتَعَسَّرَ عليَّ رزقي، فقصدتُ دار الخِلافة لعلي أَجِدُ فيها رِزقاً
أو عَمَلاً، ولمَّا وصلت أخذتُ أتجَوَلُ فيها، فرأيتُ رجلاً طويل
اللسانِ قصير الثوبِ، وهو يمسِكُ فتىً من ملابِسِهِ، فسِرتُ خَلفهما
حتى وافيا دار الإمارة، فوَجَدنا الأمير مُتَرَبِعاً فوقَ عَرشِه.
فقالَ له الشيخ، إني رَبَيْتُ هذا الغلامَ يتيماً، ولم أُقصِرَ في
حَقِهِ تهذيباً وتعليماً، إلى أن كَبِرَ ومهر، فتنكَرَ لي وعَقَّني.
فقال الغلامُ : واللهِ ما تَنَكَّرتُ لك ولا عقَقْتكَ. فقال الشيخ
: أخزاكَ اللهُ أيها الفتى ! وأيُّ عّيبٍ أكْثَرُ من أن تُغيرَ على
شِعري وتَدَعيه، وسرِقَةُ الشِعرِ عِندَ الشُعراءِ أفظعُ من سَرِقَةِ
الأموال. فقال الوالي : كيف كانت سَرِقَةُ شِعركَ ؟ قال : أخَذَ
ثُلثَيهِ ثم اِدَّعاه لِنَفْسِه، قُلتُ قَصيدّةً أولها ـ
|
شِرْكُ
الرََّدى وقرارة الأكدار
|
يا خاطِبَ الدُّنيا الدَنيَّة
إنها
|
أَبْكَتْ
غداً بُعداً لها من دار
|
دارٌ متى ما أضْحَكَتْ في يَومِها
|
أخَذَ ثُلثَيها وقال ـ
|
دارٌ متى ما أضْحَكَتْ
في يومِها أبْكَتْ غَدا
|
يا خاطِبَ الدُّنيا الدَنيَّة
إنها شِرْكُ الرَجى
|
|
|
وهكذا سارَ في
القصيدة ثم اِداعاها لنَفْسِهِ. فالتفت الوالي إلى الغلام وبكَّتَه
: فقال : واللهِ ما سَرَقْتُ ولا أخذتُ وإنما هو اِتفاقٌ في الخواطر،
فقال الوالي : سأمتَحِنُكما، أَنشِدا معاً أَبياتاً تَشْرَحانِ فيها
حالي مع مَحْبُوبَةٍ لي، فإني مولعٌ من أنواعِ البلاغةِ بالتَجنيس
وأراهُ لها كالرئيس، فأنْظِما الآن عَشْرَةَ أبياتٍ وضَمِّناها شَرْحَ
حالي مع إلفٍ لي بّديعَ الصِفة ألْمى الشَّفَة مليحُ التَثَني كثيرُ
التيه والتجني مُغرىً بتَناسي العَهْدِ وإطالة الصَّدِ وإخلافِ الوَعْدِ
وأنا له كالعَبْدِ. فبَرَزَ الشَيخُ فَأنشَدَ بَيْتاً، فقالَ الفتى
البيتَ الذي يليه، ثم عاد الشيخُ فأنشَدَ ثالثاً وعاد الفتى فأنشد
الذي يليه، وهكذا. فَعَجِبَ الوالي من أمرِهِما وأرادَ أن يُصْلِحَ
بينهما، فاِشتد بينهما الجِدالُ، وقالَ الشيخُ إنَّ هذا الفتى قد
تعوَّد أنْ أنفِقَ عليه وكانَ ذلكَ والزَمَنُ مُقبِل، أما الآن فقد
صِرْتُ إلى الفقرِ والحِرمان. فدعا الوالي بِحِلَّتين للشيخِ والغلامِ
ونَفَحهما بقَدْرٍ من المال فاِنْصَرَفا
قال الحارث : فَعَرَفْتُ أنَّهُ أبو زَيدٍ واِبنه فَعَرَّفت الوالي
حقيقة الشيخ واِبنه. فقال الوالي : اُكتم هذا الخَبَر خِشْيَةَ أن
يقول الناس : إنَّ والي البلد وقعَ في أُحبولةِ محتالٍ وخديعةِ خدَّاع
|
+++
|